ها أنا أتخبط محاولةً الابتعاد والتحرر من ضغط ذراعيه، العرق في كل مكان، لقد كانت رائحة الحب والرغبة والاشتياق والخوف تعبق بالمكان، أشعر بأني أحترق، رئتاي تشتعلان أكثر مع كل نفس أخذه كأنني كنت أنفخ فيهما ليشتعلا أكثر وبصورة أسرع.
كل شيء مشوش غير واضح، لا أستطيع الرؤية بوضوح.. حسناً، يبدو أنه قد دخل شيء ما لعيني، أوه.. إنها مجرد ماسكارا رخيصة وقد اختلطت بالدموع والقبل وسالت، إنها تحرق عيناي وتشوش الرؤية، وثقل هذا الجسد كما لو كان لجثة ميتة.. إنه يأبى الحراك.
“لا, لا تقبّل عيني”
“لما لا؟”
“لا أدري، لا تفعل فحسب..”
أنا أكذب مجدداً، أنا أدري لما لم أرغب بقبلة من شفتيه على عيني.. إنها تلك اللعنة التي حلت علي حين سمعتها مصادفة على هيئة أغنية قديمة.. “بلاش تبوسني في عينيا دي البوسة في العين تفرق”.. أجل إنها كذلك.. مجرد كلمات كبقية الكلمات المستهكلة للأغاني القديمة التي لم يعد أحد يستمع لها لكنني كنت أخشى أن نفترق.. عشرات القبل حول الجسد وكانت واحدة كفيلة بتفرقتنا لذا لم يكن الأمر يستحق المجازفة..
لم يكن الأمر يستحق المجازفة لكننا فعلنا، أعني هو فعل وقبلني على عيني تاركاً أثراً خفيفاً من السواد على شفتيه، ـخبرته بشأن الماسكارا الرخيصة وبشأن هذا النوع من الحب الرخيص الذي لا يصلح سوى لليلة واحدة.. أو ربما لصباح خريفي واحد لكنه لم يأبه ولم أفعل كذلك.
* * *
إنه لمن المذهل كيف لعام واحد أن يغير فينا الكثير، أنا قبل عام لا أشبهني، في هذا المكان تحديداً كنت في مثل هذا اليوم متأخرة بعام.. أتخلص من أثر قبلة على عيني مودعة معها كل شي.
أحب الخريف، إنه فصل يشبهني، تائه بين الفصول لا يدري أأريد به صيفاً أم شتاءً.. إنه كل شيء إلا نفسه، فيه من روح الشتاء والصيف والربيع.. إنه البداية والنهاية في آن، إنه لسعة البرد التي تقرص أنفك صباحاً ولفحة الشمس التي تهرب منها عند الظهيرة..
في الخريف أنت ورقة أخرى تسقط ليتلاعب بك القدر.. أنت شيء آخر مختلف تماماً عما كنته تستمع لموزارت أمسية الجمعة ثم تقرر صباح السبت أنك ستقضي الليلة في أحد البارات الرخيصة تتجرع الشراب الرخيص، تستمع لموسيقى سيئة وتتنفس الهواء الرخيص المشبع بضحكات الراقصات والرجال الآخرين الذين لا يدرون أي فصل هم.
إنني في الغرفة لوحدي، لكنني أتحدث إلي بصوت منخفض وأستمر بطرح الأسئلة التي لا أعرف إجاباتها.. إنني أشعر بثقل.. كما لو كانت الدنيا بأكملها تجثم على قفصي الصدري الصغير.
من أين جاء هذا الصوت.. إنه هادئ، إنه يخبرني أن كل شيء سيكون على مايرام.
إنها في مكان ما، في الوجوه الغريبة التي تخلدها الصور وومضات ضوء الكاميرا، في الوجوه التي تصادفني كل يوم في الطريق، في المدرسة، في الكاراج.. إنها في الأصوات وداعايات التلفزيون.. في كل الطرق التي فاتني أن أمشيها، في كل محطات القطارات التي أفوتها كل يوم ولم أنزلها.. في قارات العالم الخمس التي لم أزرها واحدة واحدة، في كل الشواطئ الأسترالية الذهبية الرائعة التي لم أستلقي عليها.. إنها في كل الأحلام التي صحوت صباحاً ولم أذكر منها شيئاً، في أناشيد الصباح المدرسية التي كنت أفوتها عن قصد كما أفوت وطنيتي الآن، في المعتقدات والعادات والمحرمات، في نظرة همنغواي للعالم، وروح باخ القاسية، في بؤس إدجار آلان بو وظلم الحياة له.. إنها في كل مكان ربما.. روحك التي تخشى أن تضيعها هي بالفعل ضائعة منك.. إنها تتشرب العالم بصورة معلومات وأغانٍ ورؤى وأحداث تنهال عليك كل يوم كتفاصيل ليوم عادي، إنها تسرق روحك وتكسرها لمليارات القطع وتنثرها حول العالم.. تحول كل ما مر بك كمعلومة أو كأغنية تسمعها في راديو التاكسي وأنت عائد من جنازة أحدهم، أو كصديق المرة الواحدة العاشر بعد المئة الذي تقابله في رحلتك هذا الصباح بالميترو صوب عملك.. إنها روحك يا رفيقي ولا شيء غير الروح سيدوم، إنها طاقة متجددة ولا تفنى.. لست بحاجة لسرد نظرية لافوازييه، أنت حتماً تذكرها من دراستك بالماضي.. ألم أقل لك أنهم يعدوننا في هذا المجتمع للتلقي والتشرب والاستقبال حتى نتشبع ونفقد قدرتنا على التركيز.. إنها الطاقة التي لا تفنى ولا تستحدث من عدم بل تتغير من صورة لأخرى!
إننا نتغير، نتحول، نتجدد ولكننا لا نفنى إلا بالصورة المستهلكة التي جُبلنا على تقبلها.. لا نفنى إلا بالموت – وحتى الموت ماهو إلا بداية!
* * *
هنا.. مكبلة إلى سرير الحنين وصوت تلك الأغنية في خلفية المشهد يجعلني أشعر بالغثيان.. إنها تغني كما لو أنها تعرفني إنها تغني ببرود غريب.. برود لا يليق بمن يخشى الفراق الناتج عن قبلة! “خلي الوداع من غير قبل.. علشان يكون عندي أمل.. وبلاش تبوسني في عينيا” إن هذه الأغنية قد صارت هوساً، صارت طاقة تنتقل لي بصور متعددة، مرة كرغبة ملحة للخروج حافية إلى الشارع والصراخ في اللحظة التي تتحول فيها الإشارة للضوء الأخضر.. أصرخ حتى يتلاشى صوتي ويتحول لصدى يصل مداه إلى كل مكان.. ومرة أخرى كرغبة عناق وسادتي والبكاء بحرقة، البكاء الذي يليق بقبلة وداع تمنيت أني لم أحصل عليها!
عام من اللاشيء، عام من ساعات الانتظار والوجوه والأحاديث غير المكتملة.. عام من الأمسيات الوحيدة، عام من الصباحات باردة.
No comments:
Post a Comment