Monday, December 4, 2017

الفتى سيء الحظ

       حين دلف لهذه الحانة الصغيرة لم يكن يعلم أنه سيدخل شابا في مقتبل العمر ويخرج منها كهلا مل هذه الحياة .


حين سحب الباب ليُفتح كان قد سحب معه سحابة دخانية كثيفة مليئة برائحة النساء والوعود والخوف ودخان السجائر وعرق العاملين وأشياء أخرى لم يعرفها بعد, هذا الشاب الأخرق سيموت الليلة وسينهض من رفاته رجل كفيف ستكون بصيرته الوحيدة هي تجارب الآخرين.
بهذا, دخل الحانة خدل الباب وتركه يصفق منغلقا بقوة كاتماً بذلك أي صرخة قد تخرج لتُسمع
الفتى القادم من مأتم المدينة لا يبالي, كل ما يريده في الحقيقة هو صورة له مع امرأة بصدر عار ليتسنى له فوز ذلك الرهان الغبي بينه وبين يتيم آخر لم أشعر بأنه مهم لأذكر إسمه أيضا
هذا الرهان الغبي كان هو القدر الدي جلبه لهذا المكان, من هنا كان عليه أن يتساءل عن كل هذه المرايا المعلقة خلف الساقي, كل هذه المرايا وكل هذه القذارة المنعكسة .. يدخل الرجل هنا وهو يرتدي على وجهه كل الوقار والكحمة والأوسمة الشرفية الاجتماعية, يدخل هدا الفخ .. يثمل .. يثمل بحق .. يزيح الساقي رأسه فيرى الرجل حقيقته .. حقيقة قذرة بشعة تلتصق في ذهنك .. في كل مرة تثمل ترى نفسك على حقيقتها فتعود لتثمل على أمل أن تضعف قواك وتتوهج عيناك فيغشى بصرك .. لكنك في كل مرة تعلم أن هذه المرايا ستكون هنا, موجهة نحوك.. نحوك وحدك , كلها تراك كما ترى نفسك فمالذي تخفيه ؟

كفى .. أترك المرايا و الباب والساقي والرجال المناهرين في صمت خلف سحاب دخان سجائرهم ولهيثهم المتكور في أفواه أكواب الشراب ,, أترك كل هذا.
ما الذي يلي كل هذا؟ تلك الأجساد المتلوية ؟ العطور والزينة والألوان .. الغنج المصطنع البائس, القصص والحكايا الحزينة خلف كل واحدة منهن ؟
كم هي جميلة؟ أكنت تدري أن هدا الجمال قذر؟ جمال متهالك ؟ جمال .. بشع ؟
حين دخل هذا الصبي من الباب خرجت كل الحقيقة من مخبأها .. حان الوقت ليكبر قليلا, الحذاء الرث الذي يحتضن قدميه لم يمشي خطوة حقيقية واحدة إلا حين دخل هذه الحانة.


"الأبواب السرية كثيرة هنا, فقط عليك أن تجد المفتاح المناسب والوقت المناسب والشجاعة الكافية لتفتح أحدها"- هذا ماقالته ايزابيلا للفتى المدهوش عند الباب.
بيلا  الجميلة, صاحبة العنق الطويل كأنه طريق سريع للموت, نهايته قبلة من فم ملائكى بإبتسامة شيطانية.. بيلا وعيناها المظلمتان, المخيفتان بشكل ساحر وجميل ..

كان عليه أن يتحرك ,, أن يخطو .. كان عليه أن ينطق ويقول أي شيء .. أي شيء كان الساقي ليجهزه له, لذا تقدم بخطوات سريعة نحو البار, متسلقا ذلك الكرسي المكبل بالأرض عنفاً, رامياً بجسده النحيل ومؤخرته الصغيرة على الكرسي, هذا الكرسي الذي يحمل بدوره ذاكرة طويلة الامد لمؤخرات كثيرة اخرى .. مبتسماَ برهبة في وجه الساقي الذي مل هذا العرض البطيء الذي يمر به الفتى والذي كان باديا مدى ملله فقط من خلال نظراته
- سأشرب ما يشربه هدا السيد هنا./ مشيراً لسكير قبيح الوجه * الحقيقي والصورة في المرآة*
هذا وإن الفتى صديقنا لا يعرف أي مسميات لهذه السوائل المختلفة اللون والطعم والرائحة حتى الان .

-الباب الثاني يميناً, إذهب ولا تعد قبل أن تعرف من أنت.
قالتها صورة الفتى المنكعسة في المرأة .. كانت صورته فقط .. صورته فحسب دون أي تغيير .. كان هو كما الآن ,, الفتى ذاته
حين سمع تلك الكلمات قهقه ثم قال بصوت خافت
-حسنا, هذه سابقة ويبدو أني قد تملث بمجرد أن جلست فما حاجتي لشراب ؟ هه
لكنه وعلى كل حال قرر أن ينهض, بيلا قد وارته ظهرها والساقي على كل حال نسى أمره كما يبدو فهو لم يحضر له الشراب ويبدو أنه صار شبحاً لم يحدث أن تواصل ببصره مع
أي من الحاضرين رغم أن الحانة تعج بالرجال والنساء والصور المنكعسة
لما لا؟
فقط صورة واحدة مع بيلا كافية .. ولكن كيف سيقنعها بأن تتعرى ؟ أعني بأن تزيح قطعة القماش تلك التي تغطي هضبتين عظيمتين من الشهوة ؟ .. لا يدري
هو فقط لا يدري لكنه سيحاول, حين استقام واعتدل ليمشي نحو ايزابيلا تحولت كل الوجوه إلى أعين وكانت كلها تنظر نحو الباب الثاني على يمينه وكان هو من فرط الدهشة يبتسم فلعل كل هذا محض خيال سُكر لكنه بعد تلك الثواني القصيرة التي مرت كأنها ساعات أدرك أنها لم تكن أعراض ثمالة .. تلك الأعين تنظر إليه بحق, تنظر إلى جسده الذي حين وجه بصره للباب رآه واقفاً هناك يسبقه, وحين أراد انا يهلع, يصرخ, يخرج من حفرة الحجيم هده أدرك انه يطفو فحسب, انه مجرد فقاعة هواء تنظر إلى الاتي :
جسده الدي يسبقه, الباب الثاني على يمينه, المحيطين به والذين تحولوا لأعين موجهة, الساقي, المرايا, الرجل البشع و زجاجة ويسكي مهشمة في الركن الشمالي للحانة.

الباب فُتح ..
ممر طويل مظلم ورائحة خفيفة لشيء عطر, التحم بجسده ففرح الفتى حتى أنه رأي أن فكرة احتضان نفسه هي الأصح في لحظتها فمد يديه ووجههما نحوه.. حضن.
عليه أن يمشي, يدخل من هدا الباب للمرة الاولى والاخيرة كما يأمل.. ما الباب إلى فوهة البركان يا فتى \
كان علي... حسناً إنه يهوي
يسقط عميقاً وهو يصرخ ..
خطوة واحدة فقط وهاهو قد بدأ بالسقوط  بالفعل .. |
كم هدا غير متوقع أليس كدلك؟
لا



في الأسفل, حين يحط جسدك على الارضية بقوة كقطعة مرشميلو تترنح بمجرد أن تلمس الأرض وانت غائب عن الوعي من شدة الصراخ هل كنت ترغب بأن تستيقظ لتجد أنك تحلم وأنها محض هلاوس أو كنت ستأمل أن هذا حقيقة وأنك بالفعل سقطت من علو شاهق ولم تتأدى وأنك لم تجن ؟
أترى ؟ حتى هده حقيقة.. ستكون كذلك حين تريد أنت .. ستستيقظ أيها الفتى إما مهشم العظام كأنك بينياتا مليئة بالحلوي بين يدي اطفال صغار شرهين أو كقطعة اسفنج خفيفة, مرنة لا تتأدى ؟
ايهما تختار؟
الألم الناتج عن التجربة أو الخوف والحاجة المذلة للأمان ؟

الفتى يصرخ .. لم يفتح عينيه بعد وقد بدأ بالصراخ, صرخ بصوت غريب تتخله عده طبقات صوتيه كما لو كان قد حشر ثلاث رجال مختلفين في حنجرته ثم نحر كل منهم ورج حباله الصوتية وعزف عليها صرخة واحدة مكملة لهذا المشهد |
سقطة أخرى, وأخرى, وأخرى,, واستمرت السقوط حتى شعر كأنه لم يكن يُمنح الفرصة ليشعر بألم كل سقطة على وجه الإستحقاق فضحك .. ضحك بنفس تلك الوتيرة التي كان قد خصصها للصراخ والتأوه, ضحك بكل تلك الأصوات المنطلقة من حنجرته فتوقف السقوط وانتهى, تلاشى الظلام بسرعة وحين أحسن بأن ذده الارض أصلب من ان تنفتح ويغرق بها نحو سقطة أخرى.. رفع رأسه وكانت هناك تنتظره .. كانت المرايا معلقة مجددا على الحوائط, في كل مرآة كان يقف رجل, تماماً أربعة رجال حول الغرفة,, مد كل واحد منهم يده نحو الفتى .. أخاف هدا المنظر الفتى فأغلق عينيه وتمنى بكل ما أوتى من قوة أن يكون هذ مجرد حلم وانه سيستيقظ في أي لحظة في المأتم القذر وحوله اصدقاءه الذين يكرههم لكنه لم يكن كذلك.. وهو يغمض عينيه بشدة ويفتحهما .. كان يرى الغرفة والرجال والمرايا والأيادي الممتدة حوله .. أعاد فعلته مرارا.. وكانت الصورة ذاتها..
فتح عينيه, صرخ الصرخة الاخيرة ومد يده للاقرب فتوهج نورٌ بالمكان حتى كاد أن يخطف بصره
الشعاع المتلاشي من ذلك الوهج ببطء بدا لطيفا ومريحا للعين خاصةً أن ما كان ينتظره من بعده شي عظيم |
الرجل كان بدون ملامح, والغرفة اصبحت خالية من سواهما, ابتسم براحة فرسمت على وجه الرجل ابتسامة مشابهة, ارتعد الفتى لوهلة وقال لنفسه أن هذا جنون ,, جنون |
التفت مجددا لينظر أمامه فرئ الفتى المأتم من السطح, ورئ مديرة المأتم وهي تسرق من المؤونة الخاصة بالمأتم وتبيعها لأحدهم, رأى ايضاً داخل المأتم, الاولاد الصغار والفتى أمثاله ممن لم يصلوا للسن القانوني لترك المأتم قد تكومو بعضهم بجانب بعض على أسرة مهترئة, البرد قارص ولا أغطية, البعض يبكي والبعض يحلم بغد افضل, البعض كان ينام فحسب, لا شيء يحلم به أو يفكر به او يقلق بشأنه ..
رأى صغير لم يتجاوز أشهره الثلاثة الاولى موضوع في سرير حديدي مع طفل يكبره,, الصغير جائع, يحرك شفتيه بحثا عن ثدي أمه لترضعه, حليباً ,, حناناً ودفئاً ربما ..
شعر الفتى بالأسى والغضب والحقد واغمض عينيه .. حين فتحهما كان الرجل قد ترك يد الفتى, لا ملامح .. فقط وجه حزين/غاضب وربما كلاهما معاً.

في غرفة المرايا, عاد الفتى وقد انكسرت مرآة وبقيت وثلاث .. ثلاث ايدي تمتد نحوه والرحلة الأخيرة لم تكن مفرحة جداً فما الذي ينتظره ..
مد يده نحو الرجل الثاني ..

ذات الضوء.. اللهفة تقل, ما الذي سيراه هده المرة ..
حسنا.. بدأت الرؤية توضح له .. لقد رأى هده الضاحية الجميلة الهادئة, رأى أيضا تلك المنازل المصطفة بحب حول حدائق صغيرة جميلة, رأى كلب يركض نحو صغيرين يلعبان وزوج يحضتن زوجته بحب كبير .. رأى تلك الأسرة الصغيرة وهي تشع بالفرح والحب والدفء وكل الاشياء الجميلة التي كان يشعر بها ولا يعرف مسميات لها |
لقد رأى دلك الرجل من قبل, رأى تلك الشامة التي على عنقه من قبل .. إنه هو .. هذا الفتى هو هذا الرجل, هو هذه الاسرة الصغيرة الرائعة
| هدا الفتى البائس القادم من المأتم البارد الموحش يتحول لهدا الرجل السعيد |

يا الهي .. يالهذه الراحة .. يالهذا الفتى ويالهذا الرجل الخالي من الملامح والقابض على يد الفتى |
عاد الفتى للغرفة .. الرجل بملامح مريحة, بإبتسامة راضية.. حيا الفتى وانصرف تاركاً إياه مع وجهين خاليين ليرسمهما الفتى ..

مد يده بسرعة للرجل الثالث, أراد أن يلحق بلهفة لتكملة المشهد الرائع السابق,, ربما سيقبل الرجل/ الفتى تلك الزوجة الجميلة المحبة |
ضوء ساطع, ضوضاء
طنين
صراخ وصوت قنابل ورصاص
فتح الفتى عينيه ليجد خراباً.. لقد كانت مدينة غريبة.. لا يعرفها وحتما لم يزرها من قبل, كانت النساء تبكي والرجال متساقطين على الأرض .. الاطفال أيضا .. الطائرات تحلق وترمي بقنابل وصواريخ, المدينة تحترق والكل مرعوب .. لقد شعر الفتى بكل ذلك الالم .. بألم المباني وهي تنهار فوق سكانها, تحطم عظامهم وأحلامهم وكل ماكانو يحلمون به, شعر بألم النساء المكلومات ووجع الاطفال , شعر بكل ذلك دفعة واحدة حتى شعر بأن صدره يحترق فصرخ, صرخة بجنون
صرخ حتى كادت حدقاته أن تخرج من محلهما, صرخ لانه ومع كل ذلك الألم شعر أيضا بالسعادة, شعر بأن هناك طرف اخر في هده المحرقة يشعر بالسعادة .. ربما كان دلك الرجل في الطائرة .؟ الرجل دو القنابل والصواريخ .. ربما كان الرجل الذي ارسله .. ربما
انتهت هده الرحلة بجنون تام
عاد الفتى وارتمى على الارض بهول عظيم وخوف اعظم.
اختفى الرجل هده المرة وعلى ملامحه حب الموت.. ستسأل نفسك كيف تكون ملامح الموت ؟ ساقول لك أنظر حولك وستعرف.. انظر لهدا العالم البائس وهو يغرق في الموت وستعرف |

المرآة الأخيرة .. الرجل الآخير ..
الفتى وقد خارت قواه لا يشعر بأنه سيستطيع ان يمد يده .. نظر للرجل .. واغمض عينيه تم اشاح ببصره بعيدا ..
هده المرة لم يطالب الرجل بيد الفتى فقد اكتفى بأن طوى يده نحوه وغاب بلا ملامح .. غاب في ظلام التهم معه الفتى ..
هده المرة حين فتح الفتى عينيه وجد نفسه في الحانة, عند الباب فوق دلك الكرسي وامام الساقي وخلفه المرايا, انتفض بقوة والتفت, وجد الحضور عبارة عن كومة رجال ونساء سكريين غارقين في ملداتهم و ايزابيلا بينهم ترقص, تخط بقدميها طريق واحد, طريق ترسمه للاخرين الدين سيأتون من بعد الفتى.

 حين نظر الفتى للمرآة لم يرى نفسه هده المرة .. لقد رأى أربعة أخرين .. راي الفتى اليتيم المليء بالغضب والذي كان العالم يقبض على روحه ويثقل صدره .. رأى الرجل المرتاح البال ذو العائلة الصغيرة  والذي كان يمثل مقدار صغير من رضى الفتى عن نفسه, ورأى شيئا مظلما, شيء كان الموت والاختناق عنوانه وفي واحدة من الزوايا كان هناك وجه بلا ملامح .. كان هذا الوجه وحسب ما فهم الفتى هو الجزء الصغير من روحه الذي لا يشعر .. يصل لمرحلة ما فلا يهتم ولا يبالي.. يلود بالفرار فحسب دون ان يحرك ساكنا, كان هذا هو الذي يجلس الأن في الحانة أمام البار والساقي والمرايا .. لم يكن هدا الرجل ليتعرف على الفتى حين يدخل الحانة الان.

خرج من الحانة يحمل بين يديه ماتبقى من ذلك الفتى الذي كان عليه, تحدي الصورة العارية كان بلا معنى, خرج بروح جديدة ومعاني كثيرة لا يستطيع تفسيرها, خرج بنظرة مختلفة لهدا العالم, خرج كرجل.

الفتى سيء الحظ

       حين دلف له ذه الحانة الصغيرة لم يكن يعلم أن ه سيدخل شابا في مقتبل العمر ويخرج منها كهلا مل هذه الحياة . حين سحب الباب لي...