ما
الذي حدث لي؟ ما الذي أصابني؟ هذا الخرس يزداد بشاعة، أيها الركب المغادر.. لا
تنتظرني..
أيتها
الكلمات لا تقفي أمامي.. أنتِ أكبر مقاماً.. أيتها الأصابع البالية عديمة الفائدة..
لما لا تكتبين؟ لما؟!
ما
كل هذا البؤس والحزن والسواد.. ما كل هذه المشاعر المختلطة والرغبة في تمزيق هذا
الغلاف الخارجي البارد المبتسم طوال الوقت والتحرر منه.. ما كل هذا يا الله؟!
أيها
الراجل.. أذكرك.. لقد قابلتك قبل سنوات على كرنيش عين الذياب – الدار البيضاء..
لقد كنتَ كفيفاً، لا تبصر بعينيك ولكن قلبك كان يحلق.. لقد كنتَ تعزف على عودك بكل
حرية.. كانت أصابعك خفيفة.. تنتقل بين الأوتار كما لو كانت زوجاً من العصافير
الملونة الصغيرة.. لقد كنت جالساً أمامنا.. في مكانك.. لكنني كنتُ أدرك وأنا أنظر إليك
أنك تحلق.. أن روحك تعزف الألحان قبل أصابعك.. لقد شدني الأمر.. وابتسمتُ كثيراً..
رأيتك تضع قبعتك على الأرض.. لا ترتجي من الواقفين شيئاً.. من ظلال أرواحهم شيئاً
لكنك وضعتها.. كنت أريد أن أتقدم نحوك وأخبرك أن عزفك كان رقيقاً، خفيفاً.. حتى
أنه تسلسل لحنايا خاطري.. كنت أراك تحلق بالمكان بموسيقاك.. وكانت بصيرتك منفتحة
حول العالم الذي لم تكن تراه.. العالم السيء البشع.. العالم المليء بالقذارة الذي
أراه..
ما
الذي جعلني أذكرك الآن؟ .. حسناً؟... لقد مرت أشهر طويلة جداً مذ كتبت شيئاً وكان
هذا الأمر أشبه بجاثوم يخنق صدري ويسحق أضلعي ويخرم في عظام ذاكرتي كشريط متقطع
مليء بالغربة وعدم المقدرة وهما نقيضان لا يلتقيان.. إذ كنتُ مراراً أهرع نحو هذه
الشاشة وهذا الكيبورد المعتم لأحاول الكتابة كما كنت أفعل سابقاً.. لقد كنت أكتب
طوال الوقت.. كان كلاماً عادياً في أغلبه لكنني كنت أكتب.. أما الآن فأنا لا أجد
ما أكتبه..
حين
كان الحزن يحركني كدمية معلقة بخيوط الوهن والخوف كنت أكتب بغزارة.. ثم زارني
الفرح.. فكنت أنانية بما فيه الكفاية لأتوقف عن الكتابة وأحتفظ بترف الفرحة لي
وحدى.. أظني كنت قد قرأت شيئاً مشابهاً.. شيء مثل "نجيد مشاركة الحزن لكننا
نفضل الاحتفاظ بالسعادة لنا وحدنا" نحن أنانيون.. أنا أنانية..
لكنني الآن لست بخير.. ولا أستطيع الكتابة أيضاً.. لا أملك موهبة أخرى.. لا أملك أنامل ذهبية جيدة بما يكفي لأعزف.. لا أجيد الرسم ولا أجيد الحياكة، لا أجيد حتى وضع مساحيق التجميل لأحاول العبث بوجه صديقة ما..
لكنني الآن لست بخير.. ولا أستطيع الكتابة أيضاً.. لا أملك موهبة أخرى.. لا أملك أنامل ذهبية جيدة بما يكفي لأعزف.. لا أجيد الرسم ولا أجيد الحياكة، لا أجيد حتى وضع مساحيق التجميل لأحاول العبث بوجه صديقة ما..
لا
أجيد شيئاً في الحقيقة.
إن
ما يخيفني في هذه اللحظة بالذات هو وأنني رغم كل الأسطر السابقة التي كتبتها إلا أنني
لم أقل حقاً ما كنت أود قوله.. لكنني ذكرت ذلك الرجل.. ذكرت الغرباء الذين تخلدهم
الذاكرة والصور.. تذكرت أيضاً الحرية التي كان يتمتع بها ولم أكن لأملك نصفها الآن
.
صديقي، الرجل الغريب ذو الأصابع الذهبية.. سلامٌ عليك أينما كنت وسلام على روحك وحضورك وكل ما كنت تراه خلف السواد ولم تره أعيينا المحدقة في النور.
على ذات الكرنيش كانت تقبع هذه المنحوتة .. كلاهما صامت.